شهـرزاد الحكيم – دراسـة في البنـاء والخـطاب



شهـرزاد الحكيم – دراسـة في البنـاء والخـطاب

تستجيب  مسرحية "شهرزاد " لمقوّمات المسرح الذهني أو مسرح الأفكار و يطغى عليها الجانب الفلسفي مما سمح لها بأن تكون فضاءا فنيا واسعا يفصح عبره الكاتب عن أطروحاته و نظرياته. 
و لعل صدورها في 1934 في فترة تفجرت على اثرها فلسفة غربية جديدة تؤله العقل
و تطرح القلب و الوجدان, إحالة الى نية توفيق الحكيم من تأليف هذا الأثر, فلا غلو إن إعترفنا أن الحكيم أراد بمؤلفه المأساوي هذا الانتقام من الفلسفة الغربية اللائكية التي  عدّها فلسفة مادية متطرفة باعتبارها تعظّم العقل  و ترى فيه الأداة الوحيدة القادرة على نشدان الحقيقة المطلقة و إدراكها.
و مع استعارة الحكيم لأبطال من "ألف ليلة و ليلة ", فإن حاجة الحكيم من ذلك لم تكن سرد أحوال الشرق و ملوكها و مجالس لهوهم و بذخهم و قد قال توفيق الحكيم موضحا "إن الأسطورة لذاتها لم تكن هي المقصودة ", فهو لم يسع إلى الإشادة بالأسطورة، بل إنّها لم تكن غير قالب فني لهذه المسرحية لمعالجة قضايا تشمل مصير الإنسانية : إلى أي مدى بمقدورنا الإفلات من أطواق الجسد و القلب و المكان و العيش بالعقل و للعقل؟ 
و قد كان أثر حكايات شهرزاد (تلك اللّغز المحيّر) على طبيعة شهريار أهم حدث ارتكزت عليه المسرحية بل دعنا نقول أن هذا الحدث هو مرتكز البناء المأسوي للمسرحية. فقد تحوّل شهريار من عبد للأجساد  يتزوّج كل ليلة عذراء ثم يزهق روحها بعد أن يقضي حاجته إلى ذات عاطفية تقدّس الروح و الوجدان فقد نجحت شهرزاد بفضل قصصها في أن تفتح مغاليق قلبه الموصدة و تحرّك جموده و تطيح بسلطان المادة الذي كان مسيطرا عليه, بيد أنه يتحوّل من خانع للقلوب إلى ذات دائمة التأمّل و التفكير و العروج نحو السماء تنشد المعرفة المطلقة و تتوهم قدرتها على إدراكها، فهو الان قد استحال إلى كائن يعيش بالعقل
و للعقل ...طارحا الروح و الجسد يرى في المكان أسرا لجسده فيحاول جاهدا الفرار  من براثنه لكن محاولته تبقى عبثيّة ...

فالرواية إذن كما قيل فيها تعبّر عن قصة الحياة التي يدخلها الإنسان وهو طفل يلهو ثم يتدرج إلى رجل يشعر ويحس لكي يتركها وهو يتأمل ويفكر

البناء التراجيدي للمسرحية :

قامت مسرحية شهرزاد على بناءٍ تراجيدي يرتكز على الخمس مراحل التالية :

مرحلة العرض التي نهضت بوظيفة إخبارية حيث اختزلت ما كان و هيّأت إلى ما سيكون، فبهذه المرحلة تحتشد الشخوص الرئيسية :(شهرزاد،شهريار،قمر،العبد) و الثانوية مثل(الساحر،الجلاد،الجارية...) فتتضح العلاقات فيما بينها شيئا فشيئا، كما هيّأت مرحلة العرض  لجوّ احتفالي قد أضفي عليه  طابع الغموض و القتامة فاستحال جوا مهيبا، تسوده الطلاسم، ينبئ بأن فاجعة ما على وشك الوقوع:"طريق مقفر/هذا الليل البهيم/يتقابلان فجأة في الظلام" و بهذه المرحلة أيضا بدأت تتضح ملامح البطل المأساوي من خلال الإفصاح عن ماضيه و هو ما تزامن مع  بداية الدورة التراجيدية. فأوّلا عرّفت هذه المرحلة بماضي شهريار البعيد متى كان جسدا محضا يستمتع كل ليلة بعذراء ثم يزهق روحها بعد أن  ينال أربه، و من ذات تقدّس الجسد و تطرح العقل والعاطفة ، يتحوّل شهريار إلى شخصيّة عاطفية و قد  شكّلت هذه المرحلة ماضي شهريار القريب متى كان يتوسّل بالعاطفة دون غيرها لإدراك اللّغز المحيّر المتمثّل في شهرزاد. كما نتبين في مرحلة العرض وجها آخر لشهريار مغايرا لما عهدناه ، وهو شهريار الذي يتمسّك بأدوات وهمية أسطورية تتمثّل في السحر و الشعوذة ناشدا الحقيقة و السر القابع خلف شهرزاد، بيد أنّه يتخلى عن تلك الأدوات معترفا بعجزها عن تحقيق مراده فيستحيل ذاتا كثيرة التأمّل والتفكير تعيش بالعقل و للعقل فهي باختصار عقل خالص.
لقد كانت مرحلة العرض عبارة عن إيحاءات و نذُر شؤم تمهّد لوقوع الفاجعة و نسج خيوط المأساة
أما المرحلة الثانية فهي تمثل الحدث الصاعد أو الفعل المتنامي، و بهذه المرحلة تطوّرت فكرة الصراع من أجل الحقيقة حيث يختار البطل التراجيدي تطليق المكان باعتباره يرمز إلى الجسد و الجانب الوجداني، و من هنا تتضّح ملامح الشخصية المأسوية، فشهريار يبدو عنيدا، جسورا،مقداما، واثقا من مشروعه و على يقين بأن فعل الرحيل و الاغتراب عن المكان سيجعله عقلا محضا قادرا على فك لغز شهرزاد و إدراك حقيقتها. و تميّزت هذه المرحلة بلحظة المؤازرة، حيث تعاطفت إحدى شخصيات المسرحية مع شهريار و تآزرت معه و وافقت على الهروب معه رغم أنها لا تشاطره ذات الآراء و لا تحمل نفس المشروع و هي شخصيّة قمر التي تتوسّل بالعاطفة لتعرف. أما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة الذروة التي تحتد بها أزمة البطل التراجيدي و يُعَمَّقُ شُعُورُهُ بالمأساة و تتضافر كل الظروف ضدهُ لتمهّد لإنهيارهِ،  فقد فشل عقل شهريار  في إدراك الحقيقة  و إتّضح أنه أداة صراع عاقرة لذلك بقيت محاولة فك لغز شهرزاد محاولة عبثية.و عوض الإغتراب عن المكان يجد شهريار نفسه حبيسه من جديد في خان أبي ميسور، مما قاده إلى الجنون و " اللامعقول "، فقد لجأ البطل التراجيدي إلى  الأفيون و الحشيش بأمل إعتلاء جناحي طائر الرخّ الأسطوري الذي سيخلصه من ربقة المكان. أما المرحلة الرابعة فهي مرحلة التهاوي، متى سينسحب قمر من عمل المؤازرة متهما شهريار بالجنون أما في المرحلة الخامسة و الأخيرة و هي مرحلة الفاجعة ، فسيعود شهرياد إلى ذات النقطة التي إنطلق منها ليعلن بذلك عن فشله في الهرب من المكان مبرزا أن العقل  أداة صراع عرجاء، و يموت القمر ليؤكد هو أيضا أن النياط لوحده عاجز عن كشف الحقيقة أما العبد و هو تجسيد للحسّ و الغريزة، فسيقتله شهريار قتلا معنويا  بعتقه مما سيؤكد على أن جسد هو نفسه أداة صراع عاقرة عاجزة عن فكّ لغز الحياة
و قد حقق هذا البناء التراجيدي الخارجي حركة درامية تؤدي القيمة المأسوية من خلال التحوّلات في نظام الاحداث الّذي كان لها وقعها العميق على شخصيات المسرحية لتفصح عن آرائها و صراعاتها الذهنية و رؤى الكاتب. 
الخطاب المسرحي:
 الحوار : 
لقد إضطلع الحوار بدور جوهري في الكشف عن أفكار الشخصيات و العلاقات الصدامية فيما بينها و ذلك من خلال لغته و نبرته و وظائفه و شكله و نسقه. فبالنسبة للغة، لقد عكست المواد المعجمية الموظّفة في مسرحية "شهريار" أداة الصراع التي تتوسّل بها كل شخصية لإدراك الحقيقة. ففي أقوال العبد يطغى المعجم الحسيّ، بإعتباره ذاتا مادية تعبد الجسد حيث قال متحدثا عن شهرزاد: "هذا البياض و هذه الرّقة"، كما حضر معجم الخوف في أقواله
و ذلك أثناء مخاطبته لشهرزاد : "إنّما تلعبين بي، و إني أخافك"، فشهرزاد تجسيد للعاطفة
و العقل، هاته الملَكة التي يسعى العبد إلى  الفرار من نداءاته. أما في ما يتعلّق بقمر الذي خنع لقلبه فإن المادة المعجمية الموظّفة في أقواله كانت غزلية مستمدة من العاطفة و لكنّها تكتسب طابع المثالية  حيث قال متعجّبا من خيانة شهرزاد : " أهي تستطيع كل هذا"، و خاطب شهرزاد مرّة متحدّثا عن الحب : "إني أرى الحقيقة". كما أعلنت لغة الحوار عن نهاية قمر المأساة إثر فشله هو الآخر في تجاهل نداءات العقل و اللذة الحسية، حيث زخرت بمادة معجمية تعبّر عن الموت و الهلاك مثل "قمر مات"" إنطفأت حياة قمر"، أما شهريار،  ففي المرحلة الأولى من الحركة الدرامية،يوظّف لغة حسية ليصوّر لنا شهريار المستسلم لشهواته حيث يقول و هو بين أحضان شهريار  :  بي رغبة أن ألثم جسدك الفضيّ الجميل، كما إستعمل لغة رومنسية ليتغزّل بشهرزاد "دعيني أتوسّد حجرك، كأني طفلك أو زوجك  "  كاشف بذلك عن الوجه العاطفي لشهريار، أما في مرحلة الحدث الصاعد أو الفعل المتنامي، فيغيب المعجم العاطفي ليأخد مكانه المعجم الفلسفي العقلاني، " قمر مازال طفلا" فبهذه المرحلة يتجاهل شهريار نداءات القلب و الجسد ليتحوّل إلى عقل خالص، أما في مرحلة الرحلة فيحضر المعجم الدرامي الذي يشي بحالة التمزق و التوتر اللتيْن يعيشهما الملك  "ذراعاك ضيقتا الخناق علي عنقي" و معجم الخروج عن المعقول في مرحلة الذروة و الفاجعة، حيث يقول شهريار مخاطبا قمر " أيها الأبله إننا ما تحرّكنا بعد " و قد عبّر هذان المعجمان عن نتيجة  مقارعة شهريار للمكان و هي الفشل. أما شهرزاد فقد زخرت أقوالها بكل المعاجم فأثناء حوارها مع العبد وظّفت معجم الحسّ و الخيانة متحدثة عن شهريار :"أريد عودته حتى لا أشبع منك " و كذلك لغة العقل و الفلسفة عندما أخبرت العبد عن كيفية قتله "بعتقه" و في حوارها مع شهريار وظّفت معجما عاطفيا حين قالت له :" تعال ارح جسمك قليلا، أو كنت تحتمل فقدي يا شهريار "...

إن تباين الأفكار بين الشخصيات و علاقاتها الصدامية يرمز إلى الصراع بين أنصاف الحقائق، فعندما كان شهريار يواجه قمر بلغة عقلانية قائلا : "اليوم نريد الحقائق يا قمر، نريد الوقائع " كانت لغة الحوار عند قمر لغة عاطفية حيث يقول مفصحا عن غاية الوجود: " لنعبد ما في الوجود من جمال "، و بذلك جسدا صراع القلب و العقل و رغبة كل منهما في القضاء على الآخر، أما حوار العبد و شهريار فقد أبرز إحتدام الصراع بين الشهوة و العقل، فعندما كان العبد يصفها بلغة حسيّة قائلا :" ما أنت إلا جسد جميل"، كانت شهرزاد تواجهه بلغة منبعها عقل رجيج : إذا أردت الحياة... فاسع في الظلام كالثعبان، احذر أن تدركك الصباح فتقتل"، أما صراع القلب و الجسد فقد كشف عنه التصادم بين لغة قمر و لغة شهرزاد، فأثناء لقائه بشهرزاد، كان قمر يستعمل لغة رومنسية ذات طابع غزلي حيث وصفها في إحتشام قائلا : " ما أنت إلا قلب كبير " و لكنها كانت تخاطبه بلغة حسيّة مستفزّة  حيث سألته : "إني جسد جميل، أليس لي جسد جميل؟ "
أما نبرة الحوار فقد أبانت أيضا عن دفائن الشخصيات و الصراع فيما بينها. ففي مرحلة العرض كانت نبرة الحوار عند شهريار نبرة غضب تصل حدّ القذف و التعنيف اللفظي  تشي بمقته لعالم القلب و الايمان ، حيث قال بسخط عندما تبادر إلى مسمعه صوت الموسيقى التي تنطق بلغة العواطف    :" ويلي من هذا الصداع! من أذن لكنّ الساعة بهذا الضجيج أيتها الساقطات " و بذات النبرة كان يفصح عن سئمه من الجسد  حيث يردّ على شهرزاد : " سحقا للجسد الجميل ! " كما تتغيّر نبرة الحوار عند شهريار لتصّل إلى درجة الإنفعال لتكشف لنا حالة القلق التي يعيشها شهريار بعد أن إستنفد كل ما في كلمتي "جسد " و "عاطفة" من معنى فهو الآن لا يخلد للشعور بل ينشد المعرفة حيث أصبح كل شيء بالنسبة له موضوع تفكير و في هذا الاطار قال :" إني براء من الآدمية.براء من القلب. لا أريد أن أعرف. أريد أن أشعر " أما في مرحلة الحدث الصاعد  أو الفعل المتنامي  و بالتحديد عند قرار الرحيل، فتصير نبرة الحوار عند شهريار أكثر جرأة و ثقة و قوّة و حزم و صرامة  حيث يقول ؛" أريد أن أعرف، "" السفر، السفر،السفر" و هو ما يؤيد فكرة أن المكان الممثل للجوانب الحسية و العاطفية قد أصبح يضيق على شهريار الخناق و يحول دونه و دون رغبته في إماطة اللثام عن كنّه الوجود و اللغز الرابض في أعماق الكون لذلك يخوض معركة ضد المكان و كله يقين بأن الرحيل سيحرره من ربقته، و بذات النبرة الحازمة خاطب شهريار،شهرزاد ليعلمها بإنكاره للجسد و قدرته على طلاق ذلك العالم و ترويض الجوانب الحسية الثاوية فيه : " لن أعود إلى جسدك الجميل، لن يسكرني ريق ثغرك، و نفح شعرك و ضمات ذراعك، شبعت من الأجساد!×٣ "  و في نفس المرحلة كانت نبرة الحوار  عند الملك أثناء  مخاطبته لقمر  نبرة ساخرة و تهكمية، حيث قال مستهزءا  بفهمه العاطفي الساذج للوجود :"  أيها المسكين! عينا امرأة ؟!  أهذا كل ما في الوجود عندك؟أيها الفتى الجميل، ينبغي أن تكون لك في كل ليلة عذراء حتى تبصر بعد عيناك " و قال أيضا بذات النبرة ساخرا من ملكة القلب : ما وظيفة القلب ؟ الحب ؟ أما في مرحلة الذروة فستتغيّر نبرة شهريار لتصبح أكثر حدّة تنم عن ضيقه و ألمه لأن محاولة تحرره من المكان قد باءت بالفشل حيث يجد نفسه من جديد حبيس المكان في الصحراء :" ما شأنك بي؟ " " ماذا تريد مني؟ماذا تريد مني؟ "بيد أنه رغم إخفاقه هذا لا زال محافظا على حماسته و  موقنا قدرته على طلاق المكان فيقول لرفيق سفره قمر : "هلم بنا يا قمر ! فلنتابع السير،السير،السير!، "غير أنه يفشل مرّة أخرى، فسجنه المكاني هذه المرة هو خان أبي ميسور، أين ستصبح نبرة الحوار عنده لامبالية تشي بحالة الجمود التي أصبح عليها شهرزاد حيث يردّ على شتائم قمر قائلا :" لا بأس " أما في مرحلة التهاوي و الفاجعة فيحتدم شعور شهريار بالمأساة فيجد نفسه قد رجع إلى نفس النقطة التي إنطلق منها فتكون نبرته ضعيفة و منكسرة " إني أضيق ذرعا بهذا المكان "  " لقد سئمت هذا السجن البلوري" 
أما قمر، فقد اتخذت نبرة الحوار عنده أثناء مخاطبته لشهريار، منحا هادئا و ذلك في مرحلة العرض و مرحلة الحدث الصاعد و حتى في فعل المؤازرة،  فكانت عادية، حيث خاطب شهريار بعد إتخاذه قرار الرحيل : "أستسافر حقا؟ " بيد أن نبرة حواره ستتغيّر في مرحلة الذروة، و ستكتسب طابعا تهكميا بعد أن بدأ يلحظ ملامح فشل شهريار في التنصل من طبيعته حيث يقول للملك رغبة في إغاضته : " و ما بعد هذا الصمت و هذه الكآبة ؟ أتحسب هذا كله حزنا على غروب الشمس" أما في مرحلة التهاوي نحو الفاجعة و انتهاء عمل المؤازرة فتتخذ نبرة الحوار عنده شكلا تصاعديا يصّل إلى درجة التعنيف اللفظي بعد أن أدهشته وضعية شهريار الذي دفعه عقله الميتافيزيقي إلي اتباع سبل ملتوية كالحشيش و الأفيون لبلوغ الحقيقة حيث قال للملك في نبرة حادة : "أصابك الجنون " أنت رجل مات "، 
أما العبد،فقد كانت نبرة حواره طِوال المسرحية منكسرة تنم عن جزع ثاوٍ في أعماقه حيث قال :"حياتي في خطر ؟""أنت إنما تلعبين بي، إني أخافك " غير أنها تستحيل إلى نبرة عنيفة و ساخرة من حالة الجنون و الضياع التي أمسى عليها شهريار فيقول في نهاية الدورة التراجيدية : "أقسم أنها دماء زوجاته! هي دماء زوجاته ! مضى عهد الدماء. لكن هذا ما صار إليه الرجل."
أما شهرزاد، فقد كانت نبرة الحوار عندها تتراوح بين السخرية و الشفقة في كل مراحل المسرحية و مع كل شخصياتها، فقد كانت تخاطب قمر بنبرة استهزاء توحي بسخريتها من سذاجته و حسن نيته حيث قالت له: "ما أبسط عقلك يا قمر!أتحسبني فعلت ما فعلت حبا للملك " ثم خاطبته بنبرة شفقة لتعلن عن أسفها مٍنْ من ألم به داء العاطفيين فأصبح القلب مطيته الوحيدة في الحياة للكشف عن الحقيقة حيث قالت له : " مسكين أنت يا قمر". و أثناء مخاطبتها للعبد إتخذت نبرتها في الحوار ذات الشكل حيث قالت له ساخرة من قصور عقله : " أيها الأبله!" أما أثناء حديثها مع شهريار فقد وصل الحوار إلى درجة التعنيف اللفظي و السخرية، فهي تهزأ  بقلبه المتهجر و حسّه الغليظ و عقله الميتافيزيقي المتعالي و إيمانه بقدرته على تطليق المكان فتقول له : "أنت رجل هالك " "أنت إنسان معلّق بين الأرض و السماء"
أما بالنسبة لحجم الحوار، فأحيانا كان ذو نسق سريع، يكتسب حلّة من الإيجاز و القصر و ذلك لحظة إحتدام الصراع بين الشخصيات، و في أحيان أخرى كان حجمه طويلا و مضمنا بالحجج و الأمثلة حيث يتّخذ صاحبه متسعا من الوقت ليعبّر عن أفكاره و يدافع عنها . 
و قد كان نسق الحوار تصاعديا ليوحي بتعمّق الصراع و إحتدامه بين الشخصيات، أما شكل الحوار فكان مرة ثنائيا و أحيانا محاورة بين أكثر من شخصية و هو غالبا خلافي، صدامي، حجاجي،سجالي، لا تصل فيه الشخصيات إلى حلّ. 

الإشارات الركحية :
تضطلع بدور هام في الإبانة عن بواطن الشخصيات و خدمة الصراع فيما بينها. و تشمل هذه الاشارات أربعة أنواع، فهي يمكن أن ترد في شكل أحوال أو أعمال(حركة) أو إطار مكاني أو زماني. فبالنسبة للأحوال، لقد أماطت اللثام عن دفائن الشخصيات و أدوات الصراع التي تتوسّل بها كل منها نشدانا للحقيقة.فالاشارات الحركية الممثلة لحالة العبد كانت تنم عن طبيعته الشهوانية ذات الشره المادي كقول الكاتب (في إعجاب) حيث كان العبد يقلب جسد شهرزاد في إعجاب و نار الشهوة تتّقد بداخله.و إلى جانب الاعجاب بجسد شهرزاد، كان العبد ممزقا بين إحساسي الرغبة و الرهبة من ملاقاة نفس مصير العبد الذي زهق شهريار روحه بعد أن وجده بين أحضان زوجته الأولى و هذا ما كشف عنه الحكيم (في قلق)(في خوف)(خائفا)، أما الأحوال المرتبطة بالوزير فأبانت عن نفسيّة الفتى العاشق  الخجولة المحتشمة و المرتبكة في حضرة معشوقته، حيث قال الحكيم واصفا قمر أثناء مخاطبته لشهرزاد:(في ارتباك)(ناظرا في الأرض)(في اضطراب)، أما في مرحلة الذروة و أثناء مواجهته لشهريار، كانت الإشارات الحركية تشي بسخرية الوزير من الملك بعد فشله في تحرير نفسه من براثن المكان، حيث قال عنه الحكيم (في سخرية المغيظ) ( ساخرا كالمغضب) بيد أنه من ساخر يتحوّل إلى غاضب و مستنكر لجنون شهريار الذي أمسى يعتمد طرقا ملتوية كالسحر و الحشيش ليعرف، و قد وصفه الكاتب قائلا( ثائرا)(في ثوران) (ثائرا) (مستنكرا).أما الاشارات الركحية المرتبطة بأحوال شهريار فقد رفعت النقاب عن شهريار الهازئ بملكة القلب حيث وصفه الحكيم ( ساخرا)، و في مرحلة  الذروة، كانت الاشارات الركحية تشي بتعمّق الأزمة النفسية التي يعيشها شهريار بعد أن فطن بفشله في الإغتراب عن آدميته حيث أمسى يعيش شتاتا بين شعورين، الأوّل  الضّيق و القلق و الغضب لذلك وصفه الكاتب (ضيّق الصدر) (في قنوط) و الآخر اليأس و اللامبالاة تنم عن استسلامه كما مدّنا به قلم الحكيم (في يأس)(هادئا)(في غير اكتراث)(في هدوء) بينما كانت الإشارات الركحية ذات الصلة بأحوال شهرزاد تختزل حالة الملكة طِوال المسرحية و موقفها من كل الشخصيات، فشهرزاد تبدو ساخرة هازئة، متهكمة و أحيانا مشفقة على الملك و الوزير و العبد و مطيّة كل منهم لإدراك سرّها، حيث وصفها الكاتب (في سخرية خفيفة ):قمر، (في تهكم خفي)(ساخرة غامضة)(باسمة). 
أما الإشارات الركحية التي عبّرت عن أعمال الشخصيات فقد كانت لها أبعاد شتى، فبالنسبة لشهريار، لقد أوحت الإشارات الركحية المرتبطة به، في مرحلة العرض بشهريار القديم الذي كان مستسلما للجسد، حيث وصفه توفيق الحكيم و هو في حضرة شهرزاد التي أخذت تشدّه إليها باغراءاتها (يقترب منها)، كما أوحت بشهريار في ماضيه القريب و هو مصاب بداء العاطفيين، حيث يقول واصفا شهريار و هو ينصت للموسيقي التي ترمز لنداء القلب(يصغي إلى الموسيقى) كما أدت هذه الإشارات وظيفة الكشف عن مقت الملك للمكان و رغبته في التحرر من قضبانه و إستعداده لتطليقه و الإرتحال نهائيا (يبتعد عنها)(يتحرّك في حزم)(ينهض في تجلّد و قوة)(يتحرّك فجأة في قوة و تحمّس) إلى جانب ذلك، لا تتوانى هاته الإشارات في الكشف عن حالة اليأس و اللامبالاة من ناحية و الغضب و القنوط من ناحية أخرى التي سكنت الملك بسبب إخفاقه في محاولة تجاوز الحدود المكانية (يضحك)(يتنهد)(يصيح)(ينصرف في صمت).أما بالنسبة لقمر، فقد تبدّى لنا نكرانه لإملاءات العقل و الجسد و تقديسه للقلب من خلال هذا النوع من الإشارات الركحية، حيث يصفه الحكيم و هو يحاول قدر الامكان مقاومة شهرزاد و عدم الاستسلام لإغراءاتها قائلا(يغض بصره)(يتحرّك دون أن ينظر إليها).إضافة إلى ذلك، أبانت لنا الإشارات الركحية عن مأساة العبد الخاضع لشهواته العمياء و هو في حضرة شهرزاد كما وصفته المسرحية(يدنو منها)(يتأملها)  و لكن تسيطر عليه الرهبة و القلق و خوف من أن يقطع شهريار رأسه كما فعل بالعبد الذي زنت معه زوجته السابقة (يتوارى العبد في سرعة البرق)(يصيح بغتة و هو يشير إلى جهة بعيدة )(يجفل) .أما الملكة شهرزاد فقد ساعدت الاشارات الركحية في التعبير عن تهكمها و إستهزائه  من رؤى بعض الشخصيات من خلال أفعالها الساخرة (تضحك)(تبتسم)
أما الاشارات الركحية الواردة على شكل أطر مكانية فقد أوحت بشعور الضيق و الوحشة الرابض في أعماق كل بطل يكافح لإدراك سرّ شهرزاد، حيث كان بعضها مغلقا و بعضها الآخر نائيا مثل ( طريق قفر، منزل منفرد،بيداء، خدر شهرزاد)، بينما كان للأطر الزمانية كذلك دور في الإفصاح عن مشاعر الحزن و الرهبة و الخوف من المجهول باعتبارها تكتسب طابع القتامة مثل :(الليل البهيم)(ساعة الغروب)(في منتصف الليل)(في ليل داج ساج(
الخـاتمة:
صفوة القول، عمل توفيق الحكيم من خلال مسرحية شهرزاد على طرح التساؤلات التالية: إلى أي مدى يمكن للإنسان تجاهل إغراءات الجسد و القلب و إعتماد العقل كمطية لنشدان المعرفة. و لا مراء أن الحال التي كانت عليها أوروبا إثر الحربين و الواقع العربي في تلك الفترة كانا الصدى الذي دفع الكاتب إلى إصدار هذا المؤلف، فلا ريب أن توفيق الحكيم يدحض الثقافة الغربية السائدة في القرن العشرين بأوروبا و التي عدّها ثقافة مادية باعتبارها تعلي من حجم الإرادة الإنسانية و تؤمن أن الإنسان العاقل و المفكّر قادر على تغيير مصيره، بينما تنكر الدين الممثل للجانب الروحي لذلك فهي بالنسبة للحكيم ثقافة متطرّفة لا تخضع لمبدأ التعادلية بين الملكات الانسانية، أما الثقافة الماضويّة التقليدية التي إخترقت المجتمعات العربية أنذاك فقد ندّد بها الكاتب و عدّها كذلك متطرّفة بإعتبارها تؤمن بأن ما تكابده المجتمعات العربية من هزائم و هموم هو قضاء من عند اللّه فرض عليها و لا عمل لها إلا أن تقنع به، لذلك فهي حسب الحكيم ثقافة مختلّة و غير متوازنة. و من الواضح أن طبيعة الثقافة التي يريد المؤلف أن يؤسس لها هي ثقافة وسطية تتبنى مبدأ التعادلية بين العناصر الإنسانية: الجسد و القلب و العقل.

إرسال تعليق

0 تعليقات